ما عرضه المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي بالأمس مثير للسخرية. طبعًا هم يكذبون دائمًا، ولكن طريقة الكذب هذه المرة مهنية جيدًّا، فنوعية المحتوى الذي تتوقعه من جهة رسمية -حتى ولو كانت إسرائيلية مضللة- أن يكون مقنعًا. هذا يعكس حجم المأزق الذي يعاني منه الجيش الإسرائيلي. رحلة البحث -التي لا تنتهي- عن إنجاز وهمي. سنحاول في هذا التقرير دحض مزاعم الجيش الإسرائيلي.
أولًا، ادعى المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي في أحد الفيديوهات الدخول إلى نفق سري تحت مستشفى الرنتيسي، على بعد 200 م من مستشفى الرنتيسي، أي أنه ليس داخل المستشفى. ولاحظنا لوحة توزيع كهربائية مع أسلاك متصلة به مباشرة، ولاحظنا كيف أن هذه اللوحة ظاهرة للعيان وغير مخبأة. بالتالي عن أي نفق مخبأ وسري نتحدث إن كانت لوحة الكهرباء موجودة وظاهرة بهذا الشكل؟
المكان الأول الذي يظهر في الفيديو يبدو مظلمًا من الداخل، لكن لاحقًا يظهر أمام النفق -الواقع مباشرة تحت لوحة الكهرباء- والذي يبدو أكثر إضاءة بفعل أشعة الشمس. وبالتالي نحن نتحدث عن مكانين مختلفين، ثم إنّ طريقة الانتقال بين المكانين غير منطقية. هذا يؤكد بأن الفيديو مجتزأً.
في قسم آخر، يدعي المتحدث الإسرائيلي الدخول إلى غرفة داخل مستشفى الرنتيسي يعرض فيها أسلحة خفيفة. يتحدث أيضًا عن إلقاء القبض على “فدائيين” وهذا أمر لم يحدث. وهذا يعني إنه مركز القيادة كما يزعمون، لكنه غير مطابق لادعاءات وجود رهائن -أطفال ونساء- إذ يستند إلى زجاجة حليب أطفال ورداء للمرضى. فكل هذه الأمور موجودة أساسًا في قبو المستشفى المخصص للأطفال. أما عن موضوع الحفاضات فيبدو بأنها لجنودهم أحضروه معهم للضرورة. يعني “الجيش الذي لا يقهر” اجتاح غزة ليكتشف مجموعة من الحفاضات.
الأكثر سخرية هو ما ورد في نهاية الفيديو عندما أشار إلى روزنامة معلقة على الجدار. لم يكن على الروزنامة إلا السبت والأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء، الخ. المتحدث قال إنه هذه قائمة بأسماء الإرهابيين ودواماتهم، لكنها لا تحمل أي أسماء.
أما موضوع الستارة (من دون نافذة) التي ادعى بأنها لتصوير الرهائن فهي مسرحية سخيفة جدًّا.هذا هو إنجاز الصهاينة بعد 40 يومًا، تصوير ستارة في مستشفى لأطفال خداج نموّهم لم يكتمل بعد. وهذا يعني أن الإحتلال تكبد 1,000,000 دولار لإدعاء هذه الأكاذيب، تزامنًا مع قطع الكهرباء عن المستشفيات وقصف المستشفيات. هذه القضية هزت الرأي العام العالمي. هذه القضية تحتاج نقاش في الإعلام العالمي وليس الستارة.
من شاهد الفيديو، يضحك على هزالة مسرحية المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي. وهو ما يؤكد بأنهم لم يتجاوزو بعد صدمة “طوفان الأقصى” التي هزتهم لدرجة كبيرة، هزت حتى قدرتهم على الكذب.
مدير مستشفى الرنتيسي كان قد دعا لجان دولية من الصليب الأحمر والمنظمات الدولية إلى دخول مستشفيات القطاع والتحقيق في المزاعم الإسرائيلية، مؤكدًا بأن القبو مخصص للمكاتب، ولكن بعد الحرب، نزحت عشرات العائلات إلى هذا المبنى. للأسف، في ظل تردي الأوضاع وعدم توفر أي إمكانيات، يضطر كادر المستشفى الطبي إلى التعامل مع مثل هذه الأكاذيب السخيفة.
نذكر بأن المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي كان يتكلم باللغة الإنجليزية لأنه كان يتوجه بشكل أساسي للجمهور الغربي.
المؤسف -منذ بداية العدوان- هو تعاطي الإعلام المتواطئ وتواطؤ إعلاميين ومؤثرين على منصات التواصل الاجتماعي، قام هؤلاء بتبني هذه السرديات الساذجة على أنها معلومات موثوقة. على سبيل المثال، بعض المؤثرين روّجوا لسردية أنه لدى حماس مركز قيادة في المستشفى، التي لا يصدقها أحد ولا يوجد عليها دليل.
قصف المستشفيات مقصود، وليست القضية أن المقاومة موجودة في المستشفيات. هم يحاولون تهجير الناس، والقول أنه لا يوجد مكان آمن في غزة، وليس أمامكم إلّا التوجه إلى الجنوب أولَا، ومن ثم إلى سيناء. هذه القضية أصبحت معروفة ومفضوحة.
بالتوازي، جرى ترويج فيديو آخر هزيل لممرضة ادعت بأنها تتحدث من مستشفى الشفاء.
الممرضة المزعومة حمّلت حماس مسؤولية السيطرة على المستشفى. كانت تصرخ بشكل مثير للسخرية “اطلعوا من هون اطلعوا من الشفاء”. تمثيل غبي وفاضح، لهجتها لا تشبه لهجة الفلسطينيين، والعديد من الممرضين في مستشفى الشفاء قالوا إن هذه المرأة لم تعمل هناك سابقًا، وممرضو المستشفى لا يرتدون إلا الروب الأبيض، فضلًا عن ذلك، لم يظهر أي مشهد في الخلفية يوحي بأنه المستشفى مكتظ بالمرضى وبالأطفال وبالعائلات التي كانت تفترش أرض المستشفى. أيضا من بين الانتقادات التي طرحت موضوع أصوات الانفجارات التي تسمع في الخلفية المستخدمة من قبل الممثلة. أيضا السماعة التي تستخدمها لونها أحمر يعني ليست من سماعات أطباء مستشفى الشفاء.
من يراقب خطاب الكيان الصهيوني منذ “السابع من أكتوبر” يفهم سخافة هذه الفيديوهات وهذا الكذب الذي تجاوز ما حدث في سوريا والعراق وإيران، الخ. هذه الأمثلة تؤشر لمستوى إفلاس الطرف الصهيوني في إدارة المعركة الذي يراهن على شيطنة العرب في الوعي الجمعي الغربي، مستعينًا بالصحفيين والكتاب في الإعلام الغربي. أحد تبعات “السابع من أكتوبر” أنها نسفت صورة “الضحية” التي عممها هؤلاء، ودفعت الشعوب الغربية للإيمان بـ مشروعية المقاومة، وبأن العدو عصابة إجرامية، بينما للمقاومة حاضنة شعبية تخوض حركة تحرر وطني.
لا تفسير لمستوى الكذب هذا ولمستوى الأداء الإعلامي والأداء العسكري والأداء السياسي الهابط سوى الصمود الأسطوري للحاضنة الشعبية للمقاومة فضلًا عن تغير الوعي الجمعي العالمي ونحن نرى الاحتجاجات في كل العالم.
بعد نهاية هذه الحرب، ستصبح التأثيرات العميقة والتحولات الكبيرة التي سوف تطرأ على هذا الصراع أوضح بالنسبة لهم ولنا وللعالم.
يدعي مدير مكتب الدبلوماسية الرقمية إسرائيلية، ديفيد سارنغ، أن الحملة الإسرائيلية على مواقع التواصل الاجتماعي تشهد نجاحًا، لكن الأرقام تقول عكس ذلك إذ أن الوسوم المؤيدة لفلسطين أكثر من تلك المؤيدة للعدو بحسب معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي. حتى جيش الذباب الإلكتروني الخاص بالصهاينة، الذي يحاول تعميم سرديات مغرضة قد فشل أيضًا في تلميع الصورة في الخارج.
نحن أمام مقاومة عربية جديدة لم يفهمها العدو لأن القضية قضية مقاومة شاملة بالمعنى الميداني العسكري السياسي والإعلامي أيضًا، فتغيير وجهة النظر الرأي العام العالمي ليست صدفة وليست مجرد تعاطف. في المقابل، هناك منظومة صهيونية متكاملة فشلت على مستوى دول وعلى مستوى المجتمعات المدنية في الغرب، رغم حصولها على تمويل هائل لمواجهة المقاومة وشيطنتها.
إذًا، هؤلاء لديهم إشكالية بنيوية غير قابلة للإصلاح لأن الصورة النمطية العنصرية المشوهة عالقة في أذهانهم عن العربي بأنه لا يستطيع أن يقاتل، لا يستطيع أن يتحدث بالسياسة، لا يستطيع أن يفكر، لا يستطيع أن يخوض الحرب الإعلامية. يمكن استخلاص هذه المزاعم والأكاذيب والتضليل من طريقة تعاطي الإعلام الغربي وحتى الحسابات التابعة لهم على المنصات الإلكترونية، لكنها لم تعد تنطلي على أحد، فالمقاومة هي أداة حركة مشروعة لرفض الظلم ولرفض العدوان. هذه المنظومة الصهيونية تواجه حركة تحرر وطني أنهت حقبة الخضوع والخنوع، وكما قال السيد حسن نصر الله في أعقاب حرب تموز: “أنتم لا تعرفون اليوم من تقاتلون … أنتم تقاتلون قوماً يملكون إيمانًا لا يملكه أحد على وجه الكرة الأرضية، وأنتم اخترتم الحرب المفتوحة مع قوم يعتزون بتاريخهم وحضارتهم وثقافتهم، وأيضًا يملكون القدرة المادية والإمكانات والخبرة والعقل والهدوء والحلم والعزم والثبات والشجاعة، والأيام المقبلة بيننا وبينكم إن شاء اللَّه”.