الذاكرة الفلسطينية حبلى بمشاهد الدم والقتل، لائحة طويلة من المجازر، المذابح، الإبادات.. وجثث متكومة وسط دوائر واسعة من الدماء الخالدة بخلود الزمن الفلسطيني. بعد واحد وأربعين عامًا، لا زالت مجزرة صبرا وشاتيلا محفورةً في تلك الذاكرة.
يقع مخيم صبرا وشاتيلا جنوب غرب العاصمة اللبنانية بيروت، ويقطنه لاجئون فلسطينيون من ضحايا نكبة عام ١٩٤٨، الذين نجوا من مجزرة التطهير العرقي على يد الميليشيات والعصابات الصهيونية إبان احتلال فلسطين.
بين ١٦ و١٨ سبتمبر / أيلول ١٩٨٢، تعرض هؤلاء اللاجئون ومجموعة من المدنيين اللبنانيين لهجوم دموي بربري من قبل ميليشيا الكتائب اللبنانية بالرشاشات والمسدسات والسكاكين والسواطير والبلطات، وذلك بعد يومين على اغتيال قائدها بشير الجميّل، وذلك بالتنسيق مع جيش الاحتلال، حيث قُتل ما بين ٢٠٠٠ – ٣٥٠٠ مدني.
في يونيو ١٩٨٢، وفي خضم الحرب الأهلية التي استمرت ١٥ عامًا في البلاد (١٩٧٥-١٩٩٠)، اجتاحت قوات الاحتلال لبنان، بقيادة وزير الدفاع وقتئذ أرييل شارون، بزعم تدمير منظمة التحرير الفلسطينية، التي كان مقرها في بيروت. وسط هذا الحصار، انطلقت المقاومة من العاصمة بيروت بإمكانيات متواضعة، والتي نجحت لاحقًا في إجبار الاحتلال على الانسحاب من الأراضي اللبنانية على مراحل إلى أن دحرته بالكامل عام ٢٠٠٠، دون قيد أو شرط.
انسحبت منظمة التحرير الفلسطينية بحلول الأول من سبتمبر / أيلول ١٩٨٢، وقد قدم المبعوث الأميريكي إلى المنطقة آنذاك، فيليب حبيب، قد قدمّ ضمانات بشأن أمن وسلامة الفلسطينيين المدنيين العزل، الذين لم يغادروا لبنان. لكن بعد أسبوعين، حاصر جيش الاحتلال صبرا وشاتيلا موفرًا الغطاء لميليشيا الكتائب لتنفيذ عمليات الذبح والتشويه والاغتصاب والمقابر الجماعية المروعة حيث بُقرت بطون النساء الحوامل، وأخرجت الأجنّة منها. يصف الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش حال نساء المخيم: “يقطع الفاشي ثدييها.. يقلُ الليل ..يرقص حول خنجره ويلعقه. يغني لانتصار الأرز موالا”.. ويمحو.. في هدوءٍ .. في هدوءٍ.. لحمها عن عظمها”.
استمرت أعمال الإبادة من الساعة السادسة مساء يوم الخميس ١٦ سبتمبر / أيلول، حتى الساعة الواحدة ظهرًا يوم السبت ١٨ سبتمبر / أيلول. الجمعية العامة للأمم المتحدة اعتبرت المجزرة “عملًا من أعمال الإبادة الجماعية”.
تسلط مجزرة صبرا وشاتيلا -باعتبارها واحدة من أكثر الأحداث المؤلمة في التاريخ الفلسطيني- الضوء على محنة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان اليوم، الذين يفوق عددهم عددهم الآن ٤٩٠ ألف لاجئ يتوزعون على مخيمات اللاجئين الـ١٢ في لبنان، والتي تعاني من الفقر والاكتظاظ وسوء ظروف السكن والبطالة وانعدام الخدمات الإنسانية الأساسية.
أحد الشهود، نجيب الخطيب، الذي فقد يومها والده و١٠ من أفراد عائلته، يقول متحدثًا لوكالة “فرانس برس”: “بقيت رائحة الجثث أكثر من خمسة أو ستة أشهر. رائحة كريهة. كانوا يرشون الأدوية كل يوم، لكن الرائحة بقيت تعبق في رؤوس الناس”. ويضيف: “حتى الآن، لا تزال رائحة القتلى في رؤوسنا”.
بدوره، كتب الصحافي الأميركي توماس فريدمان في “نيويورك تايمز”: “رأيت في الأغلب مجموعات من الشبان في العشرينيات والثلاثينيات من عمرهم، صُفُّوا بمحاذاة الجدران، وقُيِّدوا من أيديهم وأقدامهم، ثم حُصدوا حصدًا بوابل من طلقات المدافع الرشاشة بأسلوب عصابات الإجرام المحترفة”.
أما الصحافي الفرنسي روبرت فيسك فقد وصف المجزرة بأنها “أفظع عمل إرهابي في تاريخ الشرق الأوسط الحديث، وهو الأكبر حجمًا وزمنًا، وارتكبه أفراد يعرفون تمام المعرفة أنّهم يذبحون أناسًا أبرياء”.
وسط صمت عربي ودولي، لم تتم معاقبة أي مسؤول لبناني أو إسرائيلي واحد على ما ارتكبوه في صبرا وشاتيلا. وفي ٢٠٠٢، رفضت محكمة بلجيكية دعوى رفعها عشرات الناجين من صبرا وشاتيلا ضد شارون على أساس أنه لم يكن حاضرًا في المحكمة، على الرغم من قانون عام ١٩٩٣ الذي سمح لبلجيكا بمحاكمة الأجانب بتهمة ارتكاب جرائم حرب في الخارج. حاول الاحتلال التنصّل من مسؤوليته لكن المجزرة بقيت شاهدًا على دمويته وأكّدت على أنه لا الوثوق بالمجتمع الدولي والاتفاقيات التي يرعاها. بكل تفاصيل بشاعتها، يطمح أحد أبرز مجرميها الرئيسيين اليوم، سمير جعجع، إلى أن يصبح رئيسًا لبنانيًا بمباركة ودعم خليجي وغربي وذلك تزامنًا مع مسار “الأسرلة” بعدما باع هؤلاء قضية العرب والمسلمين الأولى. فإلى متى ستبقى وصمة العار بلا حساب أو مساءلة؛ ألا يستحق الضحايا محكمة دولية!! تحضرني هنا مقولة لوزير ما يسمى بــ “الأمن الصهيوني” الراحل موشي ديان، عندما سئل عن الطريقة التي سيشنّ بها الحرب على الدول العربية في العام ١٩٦٧: “بالطريقة نفسها التي شنّ بها عدوان ١٩٥٦ على مصر، لأن العرب لا يقرأون ولا يفهمون، وإذا قرأوا لا يفهمون، وإذا فهموا لا يطبقون”. فمن خلال تفحص الوقائع التاريخية، نجد أنَّ كثيرون لم يستفيدوا بعد من دروس التاريخ في صراعه مع الكيان الصّهيوني الذي كلما وقع اتفاقًا مع إحدى الدول العربية والإسلامية، يصعد أعماله العدوانية، فسعيه لـ”السلام” لا يعدو كونه ذرًا للرماد في العيون وخداعًا مكيافيليًّا خبيثًا لإنهاء وطمس القضية الفلسطينية دون منح الفلسطينيين شيئًا من حقوقهم.