إن ما يحصل في غزة من وحشية وإجرام وإبادة جراء العدوان الصهيوني على هذا القطاع، وكذلك الآن في رفح قد أيقظ الذاكرة الإنسانية وأنعشها من جديد تجاه هذه القضية والتي كادت الظروف الدولية المُسيسة أن تودي بها في مجاهل النسيان.
فلم يحدث مرة تذكر أن ارتفعت أصوات الاحتجاجات من هنا وهناك والمناهضة لدموية هذا الكيان وإجرامه وذلك عبر تاريخه المشين، إلا في هذه المرحلة من عدوانه المتواصل على قطاع غزة، هذه الاحتجاجات التي أطلقت شرارتها المقاومة العربية الفلسطينية عبر عمليتها البطولية (( طوفان الأقصى )) والتي سيكون لها أكبر الأثر في إحياء حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وتأسيس دولته المستقلة ذات السيادة، رغم أنف هذا العدو والذي عاجلاً أم آجلاً سيذكر التاريخ أنه كان هناك كياناً محتلاً يسمى اسرائيل.
وما يشهده العالم اليوم من هياج وغضب جماهيري متصاعد دعماً لأبناء الشعب الفلسطيني ومندداً بجرائم المحتل الصهيوني، هذا الهياج الذي اجتاح الكثير من الدول وخصوصاً الغربية منها والداعمة لهذا الكيان وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، ما هو في حقيقته سوى مؤشر على هذه الذاكرة الإنسانية وصحوتها المتنامية، يوماً بعد يوم تجاه ما يحدث في غزة، من انتهاكات خطيرة للقيم والمبادئ الأخلاقية والإنسانية وحقوق الإنسان وذلك قبل أن تكون انتهاكا صارخاً للأعراف والقوانين الدولية، وكذلك ما هو سوى فضح لصورة هذا الكيان المزيفة الذي كان يرتدي ولعقود من الزمن عباءة الضحية أمام الرأي العام العالمي.
إن الحركة الطلابية الاحتجاجية والتي اجتاحت أكثر من أربعمائة جامعة أمريكية والتي ولدت في الحضن الأمريكي وما يعنيه ذلك من دلالات وإشارات، كون الولايات المتحدة الأمريكية اللاعب الأساسي والداعم الاستراتيجي لهذا الكيان في عدوانه هذا، هذه الحركة الاحتجاجية ما هي إلا تعبير صارخ عن هذه الانتفاضة الإنسانية العارمة.
إن مظاهر النفاق المستشرية في السياسة الأمريكية، فيما يخص القضايا الدولية عموماُ، وحرب غزة خصوصاً، لم يعد ينطلي على أحد، وهذا ما تجلى في الحراك الطلابي الأمريكي والذي لم يتماشى مع ما يروجه الإعلام الغربي بخصوص هذه الحرب وما يبرره هذا الإعلام للموقف الأمريكي في هذا الاتجاه.
لقد بات واضحاً أن هذا الحراك انطلق من رؤية موضوعية لما يحصل، بعيداً عن سياسات التضليل الأمريكية وشيطنتها لأبناء المقاومة الفلسطينية أصحاب الحق في الأرض، الأمر الذي يؤكد تنامي الوعي في الشارع الأمريكي ووضوح الرؤية لديه، وبالأخص هذه الشريحة الطلابية وما شكلته وتشكله وعبر أجيالها المتعاقبة من نواة أساسية رافدة للقرار المركزي الأمريكي بالكوادر الفاعلة على المستوى السياسي والاقتصادي.
وما يميز هذا الحراك أنه تجاوز في أبعاده مظاهر التنديد والاحتجاج ولم يكتف بذلك، بل أنه أجبر بعض الجامعات على وقف تعاملاتها مع هذا الكيان وإلغاء كل أنواع الاستثمارات المالية معه.
ونستطيع القول بأن أهم السمات التي انطوى عليها هذا الحراك نوجزها بما يلي:
أولاً: مظاهر الاحتجاج قامت في الولايات المتحدة نصرة لقضية خارجية بعد أن كانت جل مظاهر الاضطرابات تمس الشأن الداخلي الأمريكي.
ثانياً: القضية الفلسطينية بالنسبة للولايات المتحدة والتي قامت الاحتجاجات بشأنها، هي قضية محرمة لا يجوز الانتصار لها دعما للكيان الصهيوني.
ثالثاً: إن هذا الحراك يؤد بما لا يدع مجالاً للشك تصديق الرواية الفلسطينية بعد أن كانت الرواية الغربية هي المسيطرة، مما يدل على تفوق الإعلام المقاوم في إيصال صوته.
رابعاً: سقط القناع عن موضوع الحريات والتي طالما تبجحت به الولايات المتحدة وذلك من خلال العنف الذي تم التعامل به مع هذا الحراك، لمصادرة حرية الرأي.
خامساً: ظهور الإعلام العصري ودوره العالمي من خلال وسائل التواصل الاجتماعي في إيصال الحقيقة إلى العالم بعد أن كان الإعلام الغربي المسيس قد غيبها لزمن طويل.
إن قضية غزة اليوم وبعد أشهر طويلة من العدوان عليها، أصبحت قضية إنسانية تعني كل شعوب العالم والذي ينبغي أن تبذل كل جهودها لوقف هذا العدوان وإزالة آثاره وصولاً إلى تحقيق العدالة الدولية والإنسانية بمختلف جوانبها.