جريدة الأخبار اللبنانية- وسام رفيدي
في رواية أمّ سعد للشهيد كنفاني، تقول أمّ سعد «خيمة عن خيمة تفرق»، وقد كانت جملتها المفتاحية هذه تعكس التحول في واقع الشعب الفلسطيني آنذاك بعد عام 1967، عندما انطلقت الثورة في المخيمات، فلم تعد الخيمة خيمة الذل والمهانة وحفنة الطحين وجرعة زيت السمك، بل غدت خيمة الفدائيين. لم تعد الخيمة تطحن تفاصيل يومها بالبكاء والحنين العاجز، بل غدت تُعلي صيحتها بالتحرير والعودة بأصوات الفدائيين في قواعدهم.
لا أروع من أن يتزامن انتصار المخيم في جنين مع ذكرى رحيل المبدع كنفاني، راوي الملحمة والرواية الوطنية الفلسطينية أدباً. كانت روايات كنفاني قد سجلت إشكالية المنفى واللجوء وعجز النظام الرجعي العربي وقياداته كما في «رجال في الشمس»، وناقشت بإبداعية استثنائية إشكالية الهوية والبيولوجي والاجتماعي في «عائد إلى حيفا»، لتعود في عام 1969 فتبشر بالطريق في رواية «أمّ سعد»، طريق المقاومة بديلاً للتخاذل الذي وسم سلوك «المختار» قبل عام 48، بما تضمّنه رسم الشخصيات من أبعاد طبقية فيها، سواء للمختار أو لأمّ سعد.
اليوم، عندما يخرج مخيم جنين يحتفل فوق الدمار بانتصاره وكأنه يستعيد الحكاية ويؤكدها من جديد، رغم أنه عاشها وأكدها قبل 23 عاماً في عام 2000 في بطولته آنذاك دفاعاً عن المخيم وتصدّياً للبربرية الصهيونية، كأنّ المخيم، في ذكرى استشهاد كنفاني يقول: صدقت أمّ سعد فخيمة عن خيمة تفرق، وها هي «خيمة» جنين كما أرادتها خيمة للمقاومة والبطولة لا للمهانة والاستكانة والعجز. وكلمة مقاومة تضع الحد الفاصل بين نهجين: نهج الإرادة الوطنية والصمود والتحدي والمجابهة، ونهج العجز والضعف والاستسلام والتسليم، نهج «احمونا». مخيّم جنين انتصر بنهجه، وكان مخلصاً للنهج التاريخي للمقاومة الفلسطينية التي بشّرت بها «أمّ سعد»، ومقاتلو مخيم جنين أداروا ظهرهم للقيادة الرسمية المنهارة لمنظمة التحرير وسلطة أوسلو العاجزة والمهادنة، بالضبط كما أدار «سعد» ظهره للقيادة التقليدية الأبوية الممثلة بـ«المختار».
ومع ذلك، ينبغي عدم الوقوع في ما أعتقده معالجة مجزوءة للتراث الغني للراحل كنفاني، أعني حشره في بوتقة واحدة، تصنيف يضيّق منجزه وأثره.
قد أكون بما سأسوقه الآن، كمن يحكّ جرحاً كانت مظاهره تطل برأسها بين الحين والآخر، وبشكل غير معلن على الأغلب. وسأبدأ حديثي المكتوب هذا بتساؤل: من أيّة زاوية ينبغي دراسة كنفاني وتكريمه؟ هل من الزاوية السياسية – الوطنية باعتباره من أبرز قيادات حركة المقاومة الفلسطينية؟ أم من الزاوية الحزبية المحددة باعتباره عضواً في المكتب السياسي لـ«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، قام بمهامه بما يتناسب وهذا الموقع القيادي؟ أم ترانا نتناوله من الزاوية العسكرية لاعتبار مهامه وتراثه الكفاحي، وباعتباره قائداً في تنظيم مسلح أساساً؟ أم أخيراً من زاوية الأدب والدراسات الأدبية حصراً لكونه روائياً واقعياً – ثورياً ودارساً، تركت رواياته ودراساته بصمات لا تمحى على تطور الرواية العربية والدراسات النقدية؟
كلٌ من متناولي غسان غنّى ويغنّي على ليلاه! فمنظمة «الجبهة الشعبية» في الوطن سمّت تنظيمها الشعبي الكفاحي في الانتفاضة على اسمه «كتائب الشهيد غسان كنفاني» فألبسته ثوباً عسكرياً كما لو كان محض جنرال، فانتفت في الصورة التي شكلها جيل بأكمله، الأبعاد الأخرى في شخصيته.
أمّا الذين يضمرون حقداً سياسياً «مؤدلجاً» ضد أسلوب الكفاح المسلح فسعوا جهدهم إلى نزع «تهمة» العسكرية عنه، والتي «تلوث» أدبه، فحُشر في ثوب الأدب. كان هؤلاء جميعاً ينهلون من مدرسة الكاتب الراحل إميل حبيبي الذي كان في كتاباته وأحاديثه ينتفض غضباً لمجرد ذكر الكفاح المسلح وكأن عقرباً لدغه!
وأخيراً، فالباحثون في شؤون الأدب على وجه العموم، والرواية على وجه الخصوص من أكاديميين وغيرهم، حاولوا جهدهم نزعه عنوة من الحاضنة السياسية – التنظيمية التي تربى فيها، «حركة القوميين العرب» سابقاً و«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» لاحقاً، وإن ذكروها فعلى عجالة وكأنها ليست ذات تأثير في تكوين شخصيته. حتى إن أحد الأكاديميين اللامعين – والنزيهين على أيّة حال – قال مرة عنه في نقاش معي «بس لو إنو مش ماركسي»! في زلّة أربأ على من مثله أن يقع فيها، وهذا ما قلته له.
كان التناول السابق كله أحادي الجانب، ضيقاً ونزقاً ويفتّت معالم تجربة غنية لا مجال لتفتيتها، وبالتالي فتفتيتها سيصعّب دراستها بتنوع وتعددية زوايا الدراسة، فإبداع الكاتب بالنهاية هو حصراً في القدرة الكامنة في نصه الأدبي وتجربته العملية على التفتح لتعددية القراءة.
ولا مندوحة من التقرير بأن من حق أي دارسٍ لكنفاني أن يتناوله من الزاوية التي تخصّه وتثير انفعاله واهتماماته. فمن حق المنتفض أن يرى فيه النموذج الكفاحي والعسكري، كما من حق الباحث والناقد أن يرى فيه روائياً ودارساً للأدب، كما يحق لـ«الجبهة الشعبية» أن تفخر بأن تنظيمها قدّم للعالم شخصية جمعت بين المسدس والقلم، وهذا لعمري نادرٌ في تاريخ الحركات الثورية. إنه بالضبط «أحمد العربي» الذي جمع بين الصخر والتفاح وبين البندقية والغزالة في قصيدة محمود درويش.
لكن بين حرية التناول وحشر المتناوَل وتجربته في بوتقة التصنيف الضيق، شعرة، هي كشأن كل الشعيرات التي تنتصب في الحياة كما في الفكر بين الضّديّن. وأعترف بأنني لم أقع على من أحسن التقاط الشعرة، فتناول شخصية كنفاني بأبعادها وزواياها وإنتاجيّتها المختلفة، والمتناقضة سياسياً وحزبياً وأدبياً.
لسنا أمام سوبرمان، ولا أنا ممن يتحمّسون لشطط تقديس الشخصية وإضفاء ملامح أسطورية عليها، لكننا أمام شخصية كانت قادرة على الجمع بين العمل التنظيمي المنمنم بالمفهوم اللينيني للعمل الحزبي، وبين معالجات معقدة ونفسية للصراع في روايتَي «عائد إلى حيفا» و«ما تبقى لكم»، وبين الصحافة ومسؤولياتها الإدارية والمهنية، وبين المهام السرية التي تتسع باتساع علاقات الجبهة آنذاك مع فصائل اليسار العالمي. بين الملالة من تفاصيل الاجتماعات القيادية التي جعلته يهرب منها للرسم، وبين كتابة مسلسل إذاعي بوليسي.
تلك كانت شخصية متداخلة، مركبة، متنوعة، أرجو أن يرحمها تاريخنا الوطني والأدبي من التصنيف الضيق.
أمّا اليوم، وعندما نقارب بين «أمّ سعد» وانتصار مخيم جنين، فهي مقاربة سعت بعجالة للربط بين السياسي والروائي في ما كتبه، وتحديداً في رواية «أمّ سعد»، لجهة «التبشير» بنهج المقاومة، الذي قاله روائياً وممارسة أيضاً، ربط بالتأكيد لا نراه بمعزل عن شخصيته القيادية كمناضل يساري ثوري، ناهيك عنه كروائي متميّز.