ما نشهده اليوم من أحداث دامية وأفعال وحشية بربرية وحرب إبادة جماعية تعصف بالشعب العربي الفلسطيني في قطاع غزة يعيدنا بالذاكرة إلى الوراء قليلاً بشكل أو بآخر إلى نكبة فلسطين أي إلى العام / 1948 / …. هذا العام والذي كان الحدث الأبرز في التاريخ العربي المعاصر، لِما يجسده من تأثير استثنائي كارثي على الشعب العربي الفلسطيني بشكل خاص وعلى الأمتين العربية والإسلامية بشكل عام.
ذاك العام الذي شهد إعلان الصهاينة قيام كيانهم الغاصب على أرض فلسطين كــ ((دولة))، والتي أرست دعائمه آنذاك الحكومة البريطانية عبر ما يسمى وعد ((بلفور)). ومنذ ذلك التاريخ والقضية الفلسطينية هي القضية الأهم المركزية في الوجدان والفكر العربي والإسلامي بل تخطت الحدود لتجد نفسها حاضرة في عقول ونفوس أحرار العالم في كل مكان، والتي بدورها خلقت جوّاً حميمياً من التعاطف والنصرة مع هذا الشعب المقهور حول العالم.
ولا نغالي إذا قلنا: بأن هذه القضية تشكل بُعداً حساساً زمانياً ومكانياً لما تتمتع به فلسطين تاريخياً وخصوصاً المسجد الأقصى وكنيسة المهد من مكانة روحية وتأثير عميق لدى أبناء الأمتين العربية والإسلامية وحتى المسيحية منها.
منذ النكبة والمقاومة الفلسطينية تضرب بجذورها عميقاً في الأرض وكذلك الصراع العربي الصهيوني أصبح آخذاً بعده الجلي سياسياً وعسكرياً كنتيجة حتمية لما آلت إليه الأمور من اغتصاب للأرض وتشريد للشعب العربي الفلسطيني خارج وطنه، إضافة لكل الممارسات الوحشية والهمجية التي كان يقوم بها هذا الكيان الغاصب ضد من تبقى من أبناء فلسطين داخل أرضهم ووطنهم…. تلك الممارسات التي كان مبناها ومعناها قائماً على العنصرية البغيضة والتي تعد بحق التهمة الأبرز لهذا الكيان.
ومن الجدير ذكره في هذا الشأن أنه في العرف الدولي لحالة ونشوء وقيام الدول فإنه لا بدّ من وجود مقومات وأركان تجعل منها شخصاً دولياً معترف به على الصعيد الدولي…. هذه المقومات تتجلى في وجود الإقليم وكذلك الشعب الذي يقطنه واللغة الجامعة إضافة إلى التاريخ المشترك لأبناء هذا الشعب والذي يجمع أفراده تحت مظلة واحدة تمتد عميقاً في الزمن….. تلك الأركان يجب أن تتلاقى وبصفة جوهرية وأساسية ليكون لهذه الدولة وجودها السيادي والحضاري في خارطة العالم…. لذا فإذا أردنا تسليط الضوء على هذا الكيان الغاصب لنرى إذا ما كان يشتمل على أحد هذه الأركان لَوجدنا أنه ليس فقط مفتقراً لها بل كل تلك المقومات والأركان جملةً وتفصيلاً معدومة لديه بالكلية، وما يدعيه هذا الكيان من أن فلسطين هي الوطن القومي لليهود بزعم أنها الأرض الموعودة ما هو إلا محض افتراء والغاية منه التسويق لاستقدام اليهود من كل أصقاع الأرض.
وخلاصة القول في هذا الشأن أن هذا الكيان لا حقيقة لوجوده سوى أنه كيان إجرامي غاصب استمرأ القتل مدعوماً بأعتى الدول غطرسة منذ نشوئه على يد بريطانيا إلى الآن وبشكل قوي على يد الولايات المتحدة الأمريكية ومن يدور في فلكها، وبالتالي فإن هذا العدوان البربري المستمر على قطاع غزة والذي يقوم به هذا الكيان ما هو في حقيقته إلا بلورةً لنقطة جوهرية لا ريب فيها وهي أن هذا الكيان كيان إرهابي بامتياز.
أما السؤال الذي يطرح نفسه وبشكل هام، لماذا غزة الآن؟ لماذا كال هذه الوحشية والإبادة بحق أبناء هذا القطاع بشكل لم يشهد التاريخ الحديث مثيلاً له؟
يمكننا القول أنه في الآونة الماضية وعندما كانت تحصل المناوشات بين المقاومة الفلسطينية وهذا الكيان فقد كان يرد بعدوان يأخذ شكل العملية العسكرية الخاطفة المحدودة الأهداف حسب زعمه وعلى رأسها اغتيال قادة في هذه المقاومة الفلسطينية…. هذه المقاومة التي ما برحت منذ نشوئها تقارع هذا الكيان على مختلف الجبهات وبكل الوسائل من الحجارة إلى البندقية….. هذه المقاومة التي شكلت قضيتها نواة لمحور مقاوم امتد من الجمهورية الإسلامية في إيران مروراً بالعراق إلى سوريا فلبنان…. هذه المقاومة التي جسدت تطلعات وآمال أجيال الأمة في إنهاء هذا الاحتلال وتحقيق النصر….. هذه المقاومة التي أطلقت في السابع من تشرين الأول المنصرم صيحتها الكبرى في وجه هذا الكيان عبر ما أسمته بعملية ((طوفان الأقصى)) والذي شكل منعطفاً جديداً في تاريخ هذه المقاومة وبدت ملامحه واضحة جلية من حيث قوة الإرادة الثورية والصمود الأسطوري والاستراتيجية الفكرية المؤسسة على ثوابت وطنية راسخة وقودها المقاومة نهجاً وطريقاً بكل ما في الكلمة من معنى.
هذه العملية أيقظت هذا الكيان على حقيقة مرّة بالنسبة له والتي تجسدت في أن هذه المقاومة باتت أقوى بكثير وأنها أصبحت تمتلك زمام المبادرة أي أنها انتقلت من مرحلة الصمود والدفاع إلى مرحلة دكّ وتدمير تحشيدات هذا الكيان المحتل وفي عمقه الاستراتيجي….. الأمر الذي أصاب هذا الكيان بالجنون والهيستيريا، فكان رده وحشياً يفتقر إلى أدنى المعايير الدولية المعهودة في حالة الحروب وخصوصاً أن تلك الوحشية كانت موجهة إلى العزّل المدنيين من نساء وأطفال.
هذا الكيان اتخذ من عملية ((طوفان الأقصى)) ذريعة لتنفيذ مخططه القائم على اجتثاث هذه المقاومة من جهة وإعادة سيناريو التهجير القسري لأبناء هذا القطاع إلى الواجهة كما حدث عام / 1948 /.
وهذا ما سربته بعض وسائل الإعلام عن تداول هذا الأمر في الأروقة السياسية بين هذا الكيان وبعض الجهات وكانت الوجهة المقترحة للتهجير أرض سيناء في جمهورية مصر العربية.
ورغم ما يقوم به هذا الكيان من فظاعة إجرامية ومجازر جماعية ترقى إلى جرائم حرب بامتياز إلّا أنّ روح المقاومة ما تزال في أوج توقدها صامدة مثابرة في التصدي له بكل الوسائل ولم تضعف عزيمتها بل ما زالت لها القدرة على القتال بكل ثبات.
وإن من أهم العوامل التي حدت بهذا الكيان المجرم إلى هذه الوحشية في التعاطي مع قطاع غزة ومحاولته أن يُسَوّى بالأرض مدعوماً من الغرب الامبريالي نجدها تتلخص في الآتي :
أولاً: إن هذا القطاع يعتبر المعقل الأساسي والروح الثورية المغذية لحركة المقاومة الفلسطينية وهو يمثل قطب الرحى بالنسبة للقضية الفلسطينية.
ثانياً: فقد خيّل لهذا الكيان وفي هذا الوقت بالذات أن الفرصة مواتية وأنه يستطيع القضاء على المقاومة لأن القضاء عليها يعني بالنسبة له تصفية القضية برمتها، وبالتالي إنهاء ما يسمى الصراع العربي الصهيوني وإحلال السلام وخصوصاً أن الأجواء مهيأة بعد أن استكانت بعض الدول العربية بعد توقيعها على ما يسمى (معاهدة سلام) أو عبر عمليات التطبيع مع هذا الكيان والتي قامت بها مؤخراً بعض الدول العربية، وبالتالي لم يبق لهذه القضية من نفس سوى هذه المقاومة ووجب القضاء عليها.
ثالثاً: إنه وبالنسبة لهذا الكيان فإن اجتثاث جذور هذه المقاومة يعني له إنهاء دور محور المقاومة والممانعة على صعيد المنطقة…. هذا المحور الداعم الأساسي لحركات المقاومة سواء الفلسطينية أو اللبنانية وعلى رأس هذا المحور الجمهورية الإسلامية في إيران والتي تشكل بنظره التهديد الحقيقي لوجوده.
رابعاً: فإن وجود الظروف الاقليمية والدولية المواتية والتي تعمل كغطاء بالنسبة له للقيام بهكذا عدوان تعتبر دافعاً قوياً بالنسبة له فمن جهة فإن الدول الغربية تدعمه في عدوانه سياسياً وعسكرياً ومن جهة أخرى الصمت الدولي العام الذي اكتفى بالمشاهدة وفي بعض الأحيان يندد وبشكل خجول ويدعو إلى وقف العدوان من الطرفين وكأن الجلاد هو الضحية والضحية هي الجلاد.
ولمجمل ما سبق تتضح وبشكل لا يخفى النية المسبقة والمبيتة الموجودة لدى هذا الكيان وبضوء أخضر من الإدارة الأمريكية للقيام بهذا العدوان القذر.
والغريب في الأمر وهو مما يجدر ذكره أنه لطالما كان هذا الكيان حريصاً على جمهوره من مدنيين وعسكريين، وعندما كانت المقاومة الفلسطينية تتمكن من أسر أو قتل العديد من جنوده كانت الحركة الدبلوماسية العربية والدولية تنشط في هذا الأمر ويوقف العدوان وتبدأ المفاوضات، إلا أن ذلك لم يحدث في عملية طوفان الأقصى ولم يوقف العدوان رغم الدعوات إلى هدنات إنسانية ورغم وجود المئات من الأسرى الصهاينة لدى المقاومة ناهيك عن مئات القتلى الصهاينة بل كل ذلك زاد من وحشية هذا العدوان وهذا من أدل دليل على أن هذا الكيان اتخذ قراره مسبقاً واتخذ من عملية طوفان الأقصى حجة وبدعم غربي لتدمير غزة وتهجير أهلها، أي أنه سواء كانت عملية طوفان الأقصى أم لم تكن فهذا المحتل حزم أمره وكان بانتظار الفرصة المناسبة.
لكن يبدو أنّ ((الرياح تجري بما لا تشتهي السفن)) فهذا العدوان لم يحقق لهذا الكيان ما كان يصبو له ولن يحقق له سوى المزيد من الخيبة والهزيمة والخذلان لأن المقاومة الفلسطينية لا تزال موجودة على الأرض بكامل قوتها صامدة، ومن خلفها الشرفاء من أبناء الأمتين العربية والإسلامية وأحرار العالم وفي مقدمتهم محور المقاومة الضامن الوحيد لإنهاء هذا الاحتلال وتحرير الأرض وتحقيق النصر المشرف والذي سيأتي قريباً.