صمود اسطوري يسجله محور المقاومة بوجه الغطرسة الصهيوإسرائلية؛ ما يفسر عجز هؤلاء عن تحقيق أي هدف من أهداف حرب الإبادة الجماعية المروعة والقتل الممنهج غير المسبوق. الموقف الرسمي العربي والإسلامي معيب جدًّا إلّا ما رحم ربي، فمعظم الأنظمة اصطفت في خندق العدوان واستباحت الدّم الفلسطيني.
الشعب الفلسطيني المظلوم مصرّ على نهج المقاومة المسلحة وهكذا موقف الشعب اللبناني والعراقي. أما شعب اليمن المحاصر فله في هذه الحرب فصولًا استثنائية من الصبر والصمود وتركيع “الجيش الذي لا يقهر” ومن خلفه من إمبراطوريات استكبارية. شعب لم يمنعه التجويع والحصار والحرب المفروضة عن أداء تكليفه الأخلاقي والسياسي والإنساني، فيما تخلفت حكومات عظمى قادرة على صناعة فرق كتركيا. في السياق، تورطت حكومات وظيفية كالبحرين في تشريع الإبادة الجماعية رغم الشجب الشعبي الواسع للتطبيع وللمشاركة في الحلف البحري المعادي.
تخبط وتزعزع تام لكيان الاحتلال الإسرائيلي المؤقت، ولا يمكن رأب الصدع في بنيته الوظيفية؛ محتلو الجنوب لن يعودوا إلى “غلاف غزة” ومحتلو الشمال لن يعود إلى “مغتصبات الشمال”. كلّ هذا صنعه الفشل المؤسساتي الصهيوني في إدارة الحرب وغطرسة نتنياهو وعنجهيته، وفي المقلب الآخر تعاظم وحدة السّاحات المقاوِمَة وتكاثفها فيما بينها.
الموقف الأمريكي افتضح أمام الرأي العام العالمي، وخاصةً داخل الولايات المتحدة الأمريكية، وجعل من واشنطن كيانًا منبوذًا تورط في سفك دم أكثر من ٢٠ ألف فلسطيني. نقطة تحول إستراتيجية أضفت -عالميًّا- شرعية على خيار مقاومة الشعب الفلسطيني، وأسقطت مؤمرات “السلام” المزعومة، بل وأسقطت ودفنت مهزلة “التطبيع” ذات قناع “السلام الإبراهيمي”. مواقف ضاغطة تحاصر كل الغرب المنافق الداعم للوحشيّة الصهيونية.
مئة يوم من البطولة وقهر الصهاينة، فشلوا في تحويل غزة إلى مستوطنة كبرى وفي تهجير أهلها الجبّارين. في المقابل، نحجت جبهات المساندة في إشغال العدو الصهيوني والأمريكي. المقاومة اللبنانية استهدفت “قاعدة ميرون” لكن الاحتلال يتكتم على خسائره البشرية والمادية، المباشرة وغير المباشرة، كما كشف سماحة السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير.
إبادة لم يسلم منها طواقم الإسعاف وفرق الصحافة والأطباء والممرضين. لذا عقدت محكمة العدل الدولية هذا الأسبوع جلسة استماع، بناءً على طلب جنوب أفريقيا. وفق الخبراء القانونيين، تتكون جريمة الإبادة الجماعية من عنصرين – النية والتنفيذ – وكلاهما يجب إثباتهما عند توجيه الاتهامات.
وفي حالة الكيان الصهيوني، فإن الدمار الواضح الذي لحق بغزة يشكل حجة قوية مفادها أنه يتكب إبادة جماعية أودت بحياة أكثر من 23 ألف فلسطيني، نصفهم تقريبًا من الأطفال والشباب، مع وجود آلاف آخرين في عداد المفقودين. تزامن ذلك مع التهجير القسري لنحو مليوني فلسطيني يشكلون 90% من سكان غزة. كما فرض الاحتلال حصارًا شاملًا يهدد بقتل مئات الآلاف لما سيتسبب به من جوع وأمراض معدية في الأشهر المقبلة.
القصف الجماعي العشوائي دمّر أحياء سكنية بأكملها، واستهدف المستشفيات والمراكز الثقافية والتعليمية والدينية، بما في ذلك مئات المدارس والجامعات والمساجد والكنائس والمكتبات.
في التاسع من أكتوبر، وزير الحرب الصهيوني، يوآف جالانت، وصف الفلسطينيين بأنهم “حيوانات بشرية”، فيما وصف رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، غزة بأنها “مدينة الشر”، وقال بأن المعركة “ليست فقط معركة إسرائيل ضد هؤلاء البرابرة، بل هي معركة حضارة ضد الهمجية”. بدوره، قال الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتزوج، إن الهجوم الإسرائيلي على غزة يهدف “إلى إنقاذ الحضارة الغربية… من إمبراطورية الشر”. هكذا ينظر الصهاينة إلى الإبادة الجماعية التي يرتكبوها ضد الفلسطينيين في غزة بأنها مشروعة وضرورية.
ما حدث في السابع من أكتوبر ليس مجرد نتيجة للثغرات الأمنية الإسرائيلية، بل رد فعل متوقع من الشعب الفلسطيني، الذي واجه مرارة الاحتلال لعقود من الزمن، مما أدى إلى خسائر فادحة لكنه فشل في تدمير إرادة المقاومة. فُرض الحصار بعد فوز حماس بانتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني في العام 2006.
قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 37/43 يؤكد أن الأشخاص الذين يناضلون من أجل الاستقلال والتحرر لهم الحق باستخدام “جميع الوسائل المتاحة، بما في ذلك الكفاح المسلح”. وبعبارة أخرى، فإن “عملية طوفان الأقصى” هي جزء من الكفاح الفلسطيني المشروع ضد الاحتلال الإسرائيلي. المفكر والكاتب والناقد والموسيقي والأكاديمي الفلسطيني-الأميركي، الراحل إدوارد سعيد، وصف غزة يومًا بأنها “الجوهر الأساسي” للنضال الفلسطيني. إنها بقعة فقيرة ومزدحمة يسكنه لاجئون طردوا من منازلهم خلال نكبة العام 1948، وهي أرض الصمود تاريخيًا ولا يمكن تركيعها.