مرّت ذكرى رحيل الشاعر الكبير محمود درويش، الذى توفى يوم 9 أغسطس من العام 2008، بعد رحلة طويلة قضاها في المقاومة الثقافية دفاعًا عن القضية الفلسطينية ضدّ الاحتلال الإسرائيلي. ارتبط ميلاد درويش وحياته – نحو نصف قرن من الشعر- بالوجود الفلسطيني، وتوقّف في الكثير من قصائده عند مآسي فلسطين منذ وقوعها تحت الانتداب الإنجليزي، ثم ما تبع ذلك في العام 1948، أي النكبة وما تلاها.
ورغم انغماس محمود درويش في الحركة الوطنية والسياسية الفلسطينية داخل فلسطين المحتلة وفي الشتات القسري، فقد تنبّه جيدًا إلى الوظيفة الوطنية التي ألقيت على شعره، فبذل جهدًا حثيثًا لتكريس الهويّة الفلسطينية وإشكالاتها في الوعي القومي والعالمي حتى غدا جنرالًا من جنرالات المقاومة الثقافيّة ضدّ العدوان على وجود الإنسان الفلسطيني وعلى لغته وإرثه الثقافي.
محمود درويش شاعرٌ واعٍ منظّر، وقد قال: “قليلون هم الشعراء الذين يولدون شعريًّا دفعة واحدة، أما أنا فقد ولدت تدريجيًّا وعلى دفعات متباعدة وما زلت أتعلم المشي العسير على الطريق الطويل إلى قصيدتي التي لم أكتبها بعد”.
طوّع محمود درويش الشعر بمهارة فريدة حيث دمج الإيقاع والصورة بروح شعرية معاصرة تربط التراث الفلسطيني العربي بالثقافة العالمية.
أثمرت مسيرة محمود درويش عن نحو 25 مجموعة شعرية و10 مؤلفات نثرية وعدد كبير من الحوارات الأدبية والفكرية والسياسية. وقد ترجمت أعماله إلى عدة لغات، ورغم جماهيريته الواسعة، فإنه لم ينقاد لمطالب الجمهور، بل إلى ما يتطلبه الوعي الجمالي الشاعري… يقول محمود درويش: “أنا المسمى شاعرًا فلسطينيًّا – أو شاعر فلسطين-… مطالبٌ مني ومن شرطي التاريخي بتثبيت المكان في اللغة، وبحماية واقعي من الأسطورة وبامتلاكهما معا لأكون جزءا من التاريخ وشاهدًا على ما فعله التاريخ بي في آن واحد. لذا يتطلب حقي في الغد تمردا على الحاضر، ودفاعًا عن شرعية وجودي في الماضي الذي زج به في المناظرة، حيث تصبح القصيدة دليلًا على وجود أو عدم، أما سكان القصيدة فلا يكترث بهم مؤرخو الشعر”.
توفي محمود درويش في 9 أغسطس 2008 بالولايات المتحدة إثر خضوعه لعملية جراحية للقلب بمركز تكساس الطبي في هيوستن. وقد دفن في قصر رام الله الثقافي في الضفة الغربية.
في قصيدته “صمت من أجل غزة”، يقول محمود درويش:
خاصرتها بالألغام.. وتنفجر.. لا هو موت.. ولا هو انتحار
إنه أسلوب غـزة في إعلان جدارتها بالحياة
منذ أربع سنوات ولحم غـزة يتطاير شظايا قذائف
لا هو سحر ولا هو أعجوبة، إنه سلاح غـزة في الدفاع عن بقائها، وفي استنزاف العدو
ومنذ أربع سنوات والعدو مبتهج بأحلامه.. مفتون بمغازلة الزمن.. إلا في غـزة
لأن غـزة بعيدة عن أقاربها ولصيقة بالأعداء.. لأن غـزة جزيرة كلما انفجرت وهي لا تكف عن الانفجار خدشت وجه العدو وكسرت أحلامه وصدته عن الرضا بالزمن.
لأن الزمن في غـزة شيء آخر… لأن الزمن في غـزة ليس عنصرا محايدا…
إنه لا يدفع الناس إلى برودة التأمل، ولكنه يدفعهم إلى الانفجار والارتطام بالحقيقة. الزمن هناك لا يأخذ الأطفال من الطفولة إلى الشيخوخة ولكنه يجعلهم رجالا في أول لقاء مع العدو… ليس الزمن في غـزة استرخاء ولكنه اقتحام الظهيرة المشتعلة…
لأن القيم في غـزة تختلف… تختلف… تختلف… القيمة الوحيدة للإنسان المحتل هي مدى مقاومته للاحتلال… هذه هي المنافسة الوحيدة هناك.
وغـزة أدمنت معرفة هذه القيمة النبيلة القاسية… لم تتعلمها من الكتب ولا من الدورات الدراسية العاجلة ولا من أبواق الدعاية العالية الصوت ولا من الأناشيد.
لقد تعلمتها بالتجربة وحدها وبالعمل الذي لا يكون إلا من أجل الإعلان والصورة.
إن غـزة لا تباهي بأسلحتها وثوريتها وميزانيتها إنها تقدم لحمها المر وتتصرف بإرادتها وتسكب دمها… وغزة لا تتقن الخطابة… ليس لغزة حنجرة… مسام جلدها هي التي تتكلم عرقا ودما وحرائق.
من هنا يكرهها العدو حتى القتل. ويخافها حتى الجريمة. ويسعى إلى إغراقها في البحر أو في الصحراء أو في الدم.
من هنا يحبها أقاربها وأصدقاؤها على استحياء يصل إلى الغيرة والخوف أحيانا، لأن غزة هي الدرس الوحشي والنموذج المشرق للأعداء والأصدقاء على السواء.
هجر محمود درويش العمل السياسي بعد توقيع اتفاقية أوسلو المشؤومة كشكلٍ من أشكال الرفض والمقاومة، وانبرى للكتابة الشعرية. فقد كان رافضًا للسلام مع الاحتلال الإسرائيلي الخبيث، وكان مؤمنًا بقضيته ايمانًا قويًّا… اليوم، ورغم غياب محمود درويش، لكن قصائده ما زالت حيّة فعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة.