صمود اسطوري و صبر استراتيجي و بسالة منقطعة النظير أبدتها المقاومة الفلسطينية أمام أعتى قوة عسكرية في الشرق الأوسط وأمام أكثر و أشد الجيوش وحشية و إجراماً على مستوى العالم، ماجعل هذه المقاومة قاب قوسين أو أدنى من تحقيق أهدافها و فرض إرادتها وإملاء شروطها و إغراق هذا الكيان بالذل و الهوان وجعله يتجرع كؤوس الهزيمة سياسياً و عسكرياً و اقتصادياً، وكشف صورته الإجرامية الوحشية الدموية القبيحة أمام الرأي العام العالمي و إضعاف موقفه و موقف الإدارة الأمريكية الداعمة له.
ستة و أربعون يوماً مرت على هذه الحرب الانتقامية والإبادة الجماعية و ما زالت المقاومة مرابطة على التخوم تقاتل و تقاوم و تذيق العدو الإسرائيلي مرارة الهزائم و الانكسار و تكبده خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، و هذا ما جعل العدو الإسرائيلي يدرك أنّه لا ولن يستطيع أن يفي بوعوده التي قطعها على نفسه من إنهاء حماس و المقاومة الفلسطينية و إخضاع قطاع غزة و إعادة أسراه مهما اشتد بطشه و أعمل قتلاً وتنكيلاً بأبناء الشعب الفلسطيني، و لن يقدر أن يفرض واقعاً يسمح له بأن يملي شروطه و يصل إلى مبتغاه.
حكومة الكيان الإسرائيلي و على لسان رئيسها صرحت و لمرات عديدة أنها لن توقف الحرب ولن توافق على هدنة أو تهدئة قبل القضاءعلى حماس و المقاومة و إعادة الأسرى، و لكن ماحدث هو العكس حيث خضع هذا العدو صاغراً لإرادة و شروط المقاومة و تنازل عن أمانيه و دخل في مفاوضات غير مباشرة عبر وسطاء إقليميين كقطر و مصر و دوليين كالولايات المتحدة الأمريكية، حيث أدارت المقاومة هذه المفاوضات باقتدار و نجاح، أفضت في النهاية إلى صفقة يتم بموجبها تبادل الأسرى الإسرائيلين في مقابل الإفراج عن العديد من الأسرى الفلسطينين في سجون الاحتلال من الأطفال و النساء كما سيتم فتح المعابر و إدخال المساعدات الإنسانية و الطبية و إدخال الوقود أيضاً.
عوامل كثيرة ساهمت في إنجاز هذه الصفقة و ساعدت في إخراجها، أولها صمود الشعب الفلسطيني الاسطوري و المقاومة العنيدة والشديدة التي أبداها المقاومون على جبهات القتال والضربات الصاعقة و المؤلمة التي تلقاها الجيش الإسرائيلي و كبدته خسائر فادحة في صفوف جنوده، كما أنّ غضب الجمهور الإسرائيلي وحجم الضغوط الكبيرة التي مارستها الجبهة الداخلية الإسرائيلية القابعة تحت أزمات أمنية خطيرة و أزمات اقتصادية خانقة على الحكومة الإسرائيلية و كذلك أيضاً أصوات أهالي الأسرى التي تعالت مطالبة بعودة ذويهم أحياء و بأسرع وقت، مع انعدام كلي للثقة برئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو. كما أنّ الحرب المستعرة في الشمال مع حزب الله و الخوف من اتساع الحرب و تحولها إلى حرب إقليمية تخرج عن السيطرة أجبرت كل من إسرائيل و حليفتها الولايات المتحدة الأمريكية على قبول الصفقة و الرضوخ لشروط المقاومة. ومن بين العوامل التي ضغطت و ساهمت في إنجاز هذه الصفقة هو الخلاف الذي بدأ يطفو على السطح بين البيت الأبيض و حكومة نتنياهو و امتعاض الإدارة الأمريكية من عدم قدرة نتنياهو على تحقيق الأهداف التي أعلنها في حربه هذه، و خاصة أنّ الضغوط الدولية ازدادت بسبب جرائم الحرب التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي بحق المدنيين، وانقلاب الرأي العام العالمي و تخليه عن السردية الإسرائيلية بعد اكتشافه صور الإبادة الجماعية و استمرار الفظائع من قتل و تدمير في قطاع غزة.
هذه التهدئة أثبتت فشل إسرائيل و إخفاقها في تحقيق أهم أهدافها و هو استعادة أسراها وجنودها بالقوة و عبر القتال من خلال القصف و التدمير و اتباع سياسة الأرض المحروقة، كما أنّ إسرائيل وجدت نفسها تتفاوض مع حركة تصنفها إرهابية و تريد القضاء عليها.
قد تشكل هذه الهدنة بداية لانحسار العمليات الحربية و تقلل من الاندفاعة و الحماس لمواصلة العمليات العسكرية، وتدفع المستوى السياسي و العسكري في إسرائيل لإعادة النظر في جدوى مواصلة الحرب بعد انتهاء مدة الهدنة.
يمكن لهذه لتهدئة أن تكون منعطفاً هامّاّ في مسار الحرب، و فرصة قوية لمعالجة و تخفيف الأزمة الإنسانية و المعيشية، من حيث الغذاء والدواء والاحتياجات الصحيّة، كما أنّ إدخال الوقود إلى قطاع غزة المحاصر، سيسمح بضخ مياه الشرب و عودة المخابز إلى عملها، وتأمين حاجة المشافي، مما سيؤدي إلى تحسن الوضع الإنساني وتخفيف معاناة أهل غزة. بالطبع، يتطلع الفلسطينيون لِأَن تكون هذه الهدنة محطة مهمة باتجاه وقف شامل و نهائي لهذه الحرب الغاشمة.