قضى الأسير وليد الدقة (62 عامًا) داخل مستشفى “أساف هروفيه” الإسرائيلي، بعد 4 عقود من النضال داخل سجون الاحتلال تعرّض فيها لسلسلة طويلة من الانتهاكات الجسيمة لاسيما الإهمال الطبي. وكانت منظمة العفو الدولية قد طالبت الاحتلال بالإفراج عن الأسير الشهيد لـ”دواعٍ إنسانية”، مؤكدةً أنّه تعرّض للتعذيب والإهانة، والحرمان من زيارات العائلة، والإهمال الطبي، خصوصاً منذ الـ7 من تشرين الأول/أكتوبر الماضي.
ولد الشهيد وليد نمر أسعد دقَّة في يوليو/تموز 1961 لأسرة فلسطينية تتكون من 6 أشقاء و3 شقيقات، تنحدر من جنوب غرب وادي الحوارث. كان جده لأمه يملك “أرض عطا” الممتدة على شاطئ المتوسط قبل أن يتحول إلى مستأجر لها بعد النكبة من “مالكها الجديد” المستوطن “شلومو فرانك”. في التاسعة من عمره، أي بعد نكسة عام 1967 ببضع سنوات. خسر والده تجارته، ورغم الحاجة، لم يقبل عرض عمل في شركة صهيونية في الضفة الغربية.
انضم الشهيد الدقة إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في العام 1983. وفي العام 1984، كان من بين 3 عناصر من مجموعته تم اختيارهم لتلقي تدريبات عسكرية حيث ساهم لاحقاً في تشكيل جهاز سري يعمل في الداخل الفلسطيني المحتل مهمته جمع المعلومات حول قادة ومسؤولين إسرائيليين شاركوا في اجتياح لبنان، وارتكبوا مجزرة صبرا وشاتيلا؛ واختطاف عسكريين بهدف مبادلتهم بأسرى فلسطينيين وعرب معتقلين في السجون الإسرائيلية.
عمل الشهيد في هذا الجهاز مدة عامين قبل أن تعتقله سلطات الاحتلال في سن الـ25 عاماً، وتتهمه مع الشهيد إبراهيم الراعي ورشدي أبو مخ وإبراهيم بيادسة، بقتل جندي صهيوني. تعرّض الشهيد لتحقيق قاسٍ، ومُنِع من النوم، وعانى التجويع والتعذيب الجسدي والنفسي. كما حكم عليه بالسجن المؤبد ثم جرى تخفيض المدة في العام 2012 إلى37 عاماً.
وفي العام 1999، تزوج من الإعلامية سناء سلامة، بعد أن انتزع زفافاً لمدة 3 ساعات داخل أروقة سجون الاحتلال حيث ناضلا معاً عاماً لنيل قرار يسمح لهما بالإنجاب، قبل أن يتمكن من “تحرير نطفة” اخترقت جدران السجن في العام 2019 لتخرج طفلته إلى الوجود في الثالث من فبراير/شباط 2020 باسم “ميلاد” وعمره 57 عامًا. وقد اختار لها اسم “ميلاد” في رسالة كتبها داخل سجنه في العام 2011، ومما جاء فيها “أكتب لميلاد المستقبل، فهكذا نريد أن نسميه/نسميها، وهكذا أريد للمستقبل أن يعرفنا”.
يعد الشهيد الدقة سادس أقدم أسير في معتقلات الاحتلال الإسرائيلي. وقد أطلق عليه لقب “جنرال الصمود” إذ يُعد من أبرز الأسرى المنظرين، كما أسمى نفسه “رجل الكهف” الذي ينتمي إلى عصر انتهى، لأنه أتمّ أكثر من نصف عُمره في السجن حيث مارس الكتابة كشكلٍ من أشكال المقاومة الثقافية وكي يورّث قضيته وأفكاره للأجيال. في كتابه “يوميات المقاومة في جنين”، يوثق الشهيد تاريخه النضالي وتجربة الكفاح المسلح. أما كتاب “صهر الوعي”، فيتناول تجربته في الحركة الأسيرة من داخل سجن “الجلبوع”. يعد الكتاب مرجعاً علميّاً لأدب السجون إذ يضيء على آليات التعذيب في السجون الإسرائيلية بوصفها “مستوطنة عقاب” لصهر وعي الأسرى وكسرهم “جسداً وفكراً وروحاً”.
وقد صدرت له عدة مؤلفات آخرى، أبرزها: “الزمن الموازي”؛ اضافةً إلى رواية “حكاية سرّ الزيت” التي نالت جوائز محلية وعربية. وله العديد من الكتابات في الصحافة الفلسطينية، وبشكل خاص في جريدة “فصل المقال”، وموقعَي “عرب 48″، و”التجمع الوطني الديمقراطي”. قضى ما يقرب من ثلثي حياته في الكتابة إذ يقول: “لا أكتب إلا لأني أريد الصمود داخل الأسر”، ويقول “هي نفقي الذي أحفره تحت أسواري حتى أبقى على صلة مع الحياة، حياة الناس وهموم شعبنا وأمتنا العربية، وهذا لا يعني أن الكتابة انفصال عن واقعي داخل الأسر”.
منذ بداية سجنه، عمل على ترجمات متنوعة لبرامج وكتابات عسكرية وثقافية وغيرها خدمة للأسرى أو لاستخدامها في مقالات للنشر. كما التحق بجامعة “تل أبيب” المفتوحة، حيث كانت والدته تبيع حبات الزيتون التي تجمعها، من أجل تسديد رسوم دراسته الجامعية. تابع الشهيد الدقة دراسته في المعتقل حتى نال شهادة الماجستير في الدراسات الإقليمية “مسار الدراسات الإسرائيلية ” من جامعة القدس، لكنه لم يتمكن من إكمال تحضيره لـ شهادة الدكتوراه في الفلسفة من “جامعة تل أبيب”.
ورغم إنهائه لحكمه في مارس/آذار 2023، تمت معاقبته بعامين إضافيين حيث غدا يقاوم الإهمال الطبي بعد تشخيصه بمرض السرطان، ورفض سلطات الاحتلال الإفراج عنه على الرغم من مطالبات المؤسسات الحقوقية الدولية بإطلاق سراحه. يقول الشهيد: “أكثر ما آلمني هو أنّني عايشت في الأسر الجد والابن والحفيد، وشعرت بأن ثمَّة سيناريو يعيد نفسه، وكأن السجن تركة يرثها الأبناء والأحفاد عن الأجداد”.