● المصدر: محمد هلسة | الميادين نت
ترى الصهيونية الدينية أن “الهالاخا” فقدت معنى الهوية، وبدلاً منها أصبح الإيمان بؤرة الصراع من أجل الهوية.
تنقسمُ الآراء في الوسط الديني اليهودي بشأن الموقف من المسجد الأقصى “والصعود” إليه (اقتحامه). إحدى المُقاربات ترى أنه يُمنَعُ على اليهود دُخولُ الأقصى، “جبل الهيكل” وفق زعمهم، أو الصلاة فيه إلى حين مجيء المسيح، عليه السلام، ويمثّلها حزبا شاس ويهدوت هتوراه، بينما يعتقد آخرون أنه يجوز، بل من الضروري، “الصعود” إليه، وفق ما يتبناه حزبا القوة اليهودية، بزعامة بن غفير، والصهيونية الدينية، بزعامة بتسلئيل سموترتش.
يبدو أن المؤيدين المتحمسين والمعارضين الشرسين يُدركون أن القضية تتجاوز مجرد “الصعود” إلى المسجد الأقصى، إذ يرى الطرفان أن هذا تغييرٌ مفاهيمي لاهوتي وروحي واسع في “المجتمع الإسرائيلي” يرمز إلى مجموعة شاملة من المفاهيم والقيم. صحيحٌ أن الخلاف يتمحورُ فعلياً حول الحرم القُدسي، لكن جُذور الخلاف بين الطرفين تحت السطح أعمقُ كثيراً.
إن الجدل بين اليهودية الأرثوذكسية المتشددة والصهيونية الدينية القومية لا يدور حول الأسئلة اللاهوتية، بل حول مفهوم الهوية الدينية في عالمٍ علماني. ينبعُ الخلافُ بين حُكماء الصهيونية الدينية واليهودية الأرثوذكسية المتطرفة حول الوسائل المتباينة التي يَفهم فيها كِلا الطرفين هويته الدينية وكيفية تنظيمها كأقلية داخل مُجتمعٍ علماني مُهيمن. كِلا الطرفين يُعرّف عن نَفسهُ بطريقةٍ متناقضة في مواجهة هذا “المجتمع”، ففي حين تُركّز الأرثوذكسية المتطرفة على تَخوّفها من عَلمنة الشريعة، تقوم الصهيونية الدينية على عَلمنة العقيدة. وفي كلتيهما، يؤدي الرأي اليهودي و”الهالاخا” (الشريعة) أدواراً مركزية، لكن الفارق بينهما هو كالفارق بين المجتمع المحافظ والمجتمع الثوري، إن جاز التعبير. يُنظرُ إلى إيمان المجتمع الأرثوذكسي المتطرف على أنه تقليدي؛ مُجتمعٌ مُحافظٌ يواصل إيمان أسلافه من مُنطلق الإيمان بالله. لذا، فهو يَحكُم على “المجتمع الإسرائيلي” بأنه مجتمعٌ علماني ينتهك أحكام الشريعة ولا يحترم “الوصايا”، ولا يوم السبت ولا “الكوشر” الحلال. باختصار، لا يلتزم أسلوب الحياة اليهودية. من وجهة النظر الأرثوذكسية المتشددة، العلماني هو من يتجاهل الشريعة اليهودية ولا يحافظ على “الحلال”، ويتجاهل قوانين النجاسة والنقاء، لأن الشريعة تستحوذ على اهتمام الشخص الأرثوذكسي المتطرف أكثر من الإيمان.
في الجانب الآخر، تَعُدّ الصهيونية الدينية ايضاً نفسها مُجتمعاً مؤمناً، لكنها لا تشترك في النزعة المُحافظة نفسها، بل تستمد الإلهام من المجتمع العلماني المُهيمن. من وجهة نظر الصهيونية الدينية، يُنظر إلى الإيمان الأرثوذكسي المتطرف على أنه فاترٌ أو حتى ناقص. تُركز الصهيونية الدينية، بصورة عامة، على حقيقة مفادها أن المجتمع العلماني غير مؤمن. وينصبّ نضالها هو على الإيمان ومحاربة الإلحاد. في هذا النضال، تُعَدّ المحافظة على “الهالاخا” الشريعة أقلَ أهميةً من المحافظة على الإيمان في “إسرائيل”. لذلك، أصبحت عبارة “نحن يهود مؤمنون”، وليس بالضرورة متدينين، أكثرَ شيوعاً لديهم، بل إن بعضهم يقبل تعريف “القومية اليهودية” كدينٍ، بصورة عامة.
بالنسبة إلى الأرثوذكسية المتطرفة، فإن الإلحاد في المجتمع المُهيمن لا يُهدد الإيمان، لأنه لا يجتمع معه بل ينعزل عنه. لهذا، فهي مستعدةٌ للتعبير المنضبط عن الإيمان وتتخذُ موقفاً نقدياً تجاه بعض مظاهر الإيمان الديني. من ناحيةٍ أخرى، في الصهيونية الدينية، التي تعيش حالة اتصالٍ مستمر بمجتمع علماني “غيرَ مؤمن”، يتطلب الإيمان تأكيداً. هذا يعني أن موقفها من الإيمان ليس مُقيّداً، وهي مستعدةٌ لقبول أي تعبيرٍ عن الإيمان، فالحِسّ القومي والرقص في الأسواق مقبولٌ لأن كل شيء يُعبّرُ عن الإيمان.
من الواضح أن هناك تضارباً بين المقاربة القائمة على الإيمان والنهج القائم على الفعل. تؤمن الصهيونية الدينية بأن الإيمان بالله هو أساس الديانة اليهودية، وبالتالي تضع عملية الفداء في مركز وجودها. الفداءُ هو مبدأٌ ديني يُعبّر عن قُرب الله من الإنسان. لذلك، تدعو الصهيونية الدينية إلى الصعود إلى “جبل الله” تعبيراً عن إدراك القرب من الله، في حين يضعُ المتشددون الأرثوذكس “الهالاخا” (الشريعة) كأساس لدينهم. ومن وجهة نظرهم، فإن أحكام الشريعة هي المرتكز الأول منذ الأزل، وهي تحظُر الصعود إلى “جبل الهيكل” وعادات الحداد على تدميره.
تنعكس هذه الاختلافات فيما يتعلق “بالصعود” إلى الحرم القدسي. بالنسبة إلى الأرثوذكس المتطرفين، فإن الصعود إلى “جبل الهيكل” هو بمثابة كفر، بينما في نظر الصهاينة المتدينين، فإن الصعود إليه أمرٌ إلزامي، ويتجاهل تَجنّبُهُ تحقيقَ وصايا بناء “الهيكل”. يعتمد “الحريديم” المتدينون الارثوذكس على حُكمين من أحكام “الهالاخا”، أحدهما ما ورد في “المشناة”: “من يدخل الآن مكاناً مقدساً فعليه أن يُقر بأننا جميعاً أموات نجس”. أما الحُكم الثاني، فهو الذي كتبه الحاخام موشيه بن ميمون، قبل مئات الأعوام، وقال فيه: “على الرغم من تدمير الهيكل اليوم، فإن الشخص مُلزمٌ بمراقبته بالطريقة نفسها، كما اعتدنا أن نفعل ذلك في حال وجوده”. لا يزال جزءٌ كبير من العالم الأرثوذكسي المتطرف يعتقد أنه يُمنع الدفع بقوة “للخلاص”، أي “مجيء المسيح وبناء الهيكل”، فهم يعتقدون أن هذا الأمر يحدث عندما يشاء الله، أو بصورةٍ رمزية، “سيهبط الهيكل من السماء”.
يعكس “الصعود” إلى الحرم القدسي في أعينهم ازدراءً لصرامة الحظر الذي تفرضه الشريعة لقاء انفعالات ومشاعر دينية قومية. ولا يَفهم الأرثوذكس المتشددون كيف يمكن الاستخفاف بوصايا الشريعة، وعدم احترام العقيدة المُقدسة نفسها، ويعيبون على أتباع الصهيونية الدينية أن ليس لديهم أدنى فكرة عن معنى القداسة، أو ذرة من الفهم والاعتراف بالمكانة السامية والفريدة التي أعطتها التوراة والوصايا لأماكن محددة في القدس. والأخطر من ذلك هو “جريمتهم التي لا تُغتفر، والمتمثلة بتحويل مكان يُنظر إليه منذ آلاف الأعوام كمكان مقدس، إلى رمزٍ وطني قومي”. من وجهة النظر الدينية والشرعية “لا يوجد التزامٌ ولا توجد وصية بالصعود إلى الحرم القدسي لا للزيارة، وبالتأكيد ليس لغرض إقامة الصلاة”.
أبقت التوراة الإنسان اليهودي بعيداً عن “الهيكل” في معظم الأوقات. فمن خلال المسافة “ستدخل العظمة إلى القلب”. لذا، يُفضّل الحكماء القداسة عن بعد. إن ضبط النفس في “وجه القداسة يدل على التواضع، والموقف تجاه المقدس كشيء سامٍ ورفيع، والقُرب من الهيكل خطر، ولا يُنصح بالمبادرة إليه. إن الرغبة في “الصعود” إلى الحرم القدسي لأسباب دينية “تحمل في طياتها فظاظةً دينية ووقاحةً تحت غِلاف القَداسة”. هذه هي كلمات الحاخام كوك وأغلبية حاخامات “إسرائيل”، الذين انضموا إلى المنع في بداية القرن العشرين، وعادوا ونهوا عن “الصعود” إلى “الجبل” بعد حرب حزيران/يونيو 1967، على إثر احتلال القدس من جانب “إسرائيل”.
إذاً، ما الذي يقف وراء توجه الحاخامين الصهاينة، الحاخام دوف ليئور، ويعقوب مادان، وأليعازر ميلاميد وغيرهم، والذين يدعمون “الصعود” إلى “جبل الهيكل”؟ يُعَدّ الحاخام دوف ليئور، من أكبر حاخامي الصهيونية الدينية، الذين يؤمنون بضرورة “الصعود” إلى الحرم القدسي، وهو الذي قال: “إن أي شيء تفعلونه سوف يُلهم إخواننا بني إسرائيل على استرداد المكان، وإعادة ملكية الحرم القدسي بأكمله إلى شعب إسرائيل”. تعتقد الصهيونية الدينية أن “دولة إسرائيل” هي بداية الفداء، وأنه يجب اتخاذ إجراءات فعّالة لتقريبها، ومن بينها “الصعود” إلى الحرم القدسي كعملٍ من أعمال “السيادة”. وجهة نظر عمرها آلاف الأعوام ترى النفي والعودة إلى صهيون “فِعلاً إلهياً” لم يحدث بعد، في مقابل وجهة نظرٍ جديدة نسبياً تؤمن بأن الفداء في طريقه بالفعل وأنه يجب علينا الاعتراف به ومساعدته ليتحقق. يمكن القول إن هناك عطشاً روحياً كبيراً لدى الصهيونية الدينية إلى علاقةٍ أكثر واقعية وحيوية باليهودية وبالله، ويبدو أن “جبل الهيكل” يروي عطشها.
ترى الصهيونية الدينية أن “الهالاخا” فقدت معنى الهوية، وبدلاً منها أصبح الإيمان بؤرة الصراع من أجل الهوية. وبذلك تُصبح “الذبيحة” من أجل القدس أقوى أداةٍ للتعبير عن الإيمان. يريد “المؤمنون” أن يُظهروا إيمانهم في أقدس مكان. لذا، فإن الصعود إلى “جبل الهيكل ضروري للصهيونية الدينية للتعرّف إلى ذاتها”. بالنسبة إلى هؤلاء فإن بناء “الهيكل” ذاته ليس هدفاً للشوق، بل النضال من أجل وجوده والصراع في مواجهة المجتمع الذي لا يؤمن. هذا صراعٌ من أجل الهوية الذاتية لمجتمع “مؤمن” يَستَخدِمُ فيه مكان “الهيكل” لتأسيس إيمانه، فهو لا يحتاج إلى المعبد نفسه، أو الذبائح، أو البخور، أو غناء الجنازات، بل إلى الصراع عليها.
حتى لو لم يكن من الممكن تحقيق بناء “الهيكل” المزعوم فعلياً في الظروف الراهنة، فإن الطموح نفسه تنتُجُ منه تغييرات بعيدة المدى بالفعل في المرحلة الحالية. وعندما يدعو حاخامو الصهيونية الدينية ورموزها، مثل بن غفير، إلى “الصعود” إلى الحرم القدسي، فإنهم يعززون الهدف من تحويل الحرم القدسي، ليس إلى رمز ديني فقط، بل إلى رمز “قومي” يهودي أيضاً. وهم لا يرون المعنى الأوسع لأفعالهم سياسياً في مكان يُعَدّ الأكثر قداسةً بالنسبة إلى مليار ومئتي مليون مسلم.