سوريا تحت السوط الأميركي: عقوبات تدميرية مزدوجة

D8B9D982D988D8A8D8A7D8AA-D8B3D988D8B1D98AD8A7-1024x484.jpeg

المصدر: ذا كريدل – أمجد حداد

سلاح العقوبات الأميركي والغربي ليس جديداً على سوريا، لكن تأثيره بات قاتلاً في السنوات الأخيرة مخلفّاً تأثيراً سلبياً مهولاً على كافة القطاعات الحيوية وعلى حياة المواطنين

بعد نحو 83 عاماً من استخدامها ضد ألمانيا عام 1940، أصبحت العقوبات الاقتصادية أكثر أسلحة واشنطن استخداماً ضد الدول التي ترفض الخضوع للسياسة الأميركية. هذه العقوبات باتت أسلوباً موازياً للاجتياحات العسكرية، خصوصاً بعد الهيمنة الأميركية على الاقتصاد العالمي مع ربط الدولار بالنفط في سبعينيات القرن الماضي، واكتسبت تأثيراً أكبر بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991.

هذا السلاح الأميركي تُعاني منه سوريا منذ عقود، لكن تأثيره بات قاتلاً في السنوات الأخيرة، وتحديداً بعد العام 2019. عقوبات تؤثر سلباً على كافة القطاعات الحيوية في سوريا، من الطبابة إلى التعليم والطاقة والاتصالات والزراعة والصناعة، وصولاً إلى مواجهة الكوارث الطارئة، كالزلزال الذي ضرب الشام وتركيا فجر السادس من شباط/ فبراير 2023، وأدى إلى سقوط مئات الضحايا وآلاف الجرحى وتسبّب بتدمير آلاف المساكن. أثر العقوبات الغربية والاحتلال الأميركي على سوريا جعل اقتصادها شديد الهشاشة، ودمّر قدرتها على على الاستجابة للأحداث الاستثنائية الكبرى، وهو ما دفع بـ”مجلس كنائس الشرق الأوسط” إلى المطالبة – اليوم – برفع العقوبات فوراً عن سوريا، لتتمكن من التعامل مع التحديات التي فرضها الزلزال.

اختبرت سوريا العقوبات الأميركية للمرة الأولى عام 1979، عندما أدرجتها واشنطن على قائمة الدول الراعية للإرهاب، وفرضت حظراً تكنولوجياً عليها شمل كافة السلع والتجهيزات التي تحوي مكوّنات أميركية بنسبة 10% فأكثر. ترافق ذلك مع وقوف دمشق إلى جانب طهران في الحرب العراقية – الايرانية (1980 – 1988)، ما أدى إلى توقف نحو 1,5 مليار دولار سنوياً من المساعدات المالية التي كانت دول الخليج العربية تقدّمها لسوريا. أدى ذلك إلى أزمة اقتصادية خانقة عُرفت بـ”أزمة الثمانينيات”.

بعد أقل من عقد على “البحبوحة” التي عاشها السوريون (بعد الانفتاح الاقتصادي بدءاً من عام 2000، وزيادة الناتج المحلي الصافي بنحو 49% بين 2000 و2010)، دمّرت الحرب التي اندلعت عام 2011 الاقتصاد السوري بشكل متتابع، سواء في العمليات القتالية وما رافقها من تدمير للمرافق والقطاعات الاقتصادية، أو بسبب العقوبات المتتالية التي وصلت إلى ذروتها مع قانون قيصر (2019) وقانون الكبتاغون (2022) الذي استهدف الصناعات الدوائية والقطاع الصحي.

خنق مزدوج

على عكس معظم الحالات التي استخدمت فيها الولايات المتحدة (وحلفاؤها في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي) العقوبات الاقتصادية لفرض حصار اقتصادي خارجي، تترافق العقوبات الأميركية على دمشق مع حصار من الداخل أيضاً، عبر السيطرة على منابع النفط ومعظم الأراضي الزراعية في شمال شرق سوريا (مناطق الإدارة الذاتية الخاضعة لسيطرة قسد المدعومة من التحالف الدولي بقيادة واشنطن).

تتعرض دمشق لخنق مزدوج عبر حرمانها من نفطها (المصدر الأهم للقطع الأجنبي حيث كان يشكل حوالي ربع عائدات التصدير، ويغطي 90% من حاجة السوق المحلية) وقمحها (4 ملايين طن عام 2010، تغطي الاستهلاك المحلي ويتم تصدير ربعه تقريباً)، ومنعها من الاستيراد. أدى ذلك إلى مفاقمة آثار الحصار على السوريين الذي يمرون راهناً بواحدة من أقسى الأزمات المعيشية والاقتصادية والصحية، وباتوا عاجزين عن تأمين أبسط احتياجاتهم اليومية من الخبز والدواء.

مصادر مطلعة أوضحت لـ The Cradle أن دمشق تتكبّد أعباء مالية مضاعفة لتأمين المواد الأساسية لعدم إمكانية استيرادها مباشرة، ما يضطرها للجوء إلى شركات وساطة للالتفاف على العقوبات الأميركية والأوروبية.

ولفتت المصادر، مثلاً، إلى أن روسيا لعبت دوراً في تأمين القمح لدمشق. لكن، إضافة إلى ثمن القمح، تكبّدت سوريا مبالغ مالية كبيرة لشحنه. الأمر نفسه ينطبق على صادرات النفط الايراني إلى سوريا، عبر خط ائتمان فتحته طهران لدمشق لتأمين الوقود. غير أن عمليات نقل الوقود تتم عبر شركات خاصة تتعرض بين وقت وآخر لمضايقات أميركية، سواء عبر احتجاز الشحنات (في جبل طارق أو اليونان وغيرهما من الطرق) أو عبر إدراج ناقلات النفط على لوائح العقوبات الأميركية.

في ظل العقوبات، تواجه سوريا صعوبات كبيرة في إعادة إعمار قطاعات (الزراعة والصناعة والطاقة والتعليم والصحة…) دمّرتها حرب لعبت واشنطن دوراً بارزاً فيها، ما يدفع دمشق إلى البحث عن بدائل محلية أو عبر شركات وسيطة، أو طلب المساعدة من دول صديقة كروسيا أو إيران. تقوم شركات إيرانية، على سبيل المثال، بإجراء عمليات صيانة لمحطات توليد الكهرباء وإنشاء محطات جديدة.

نظرة على العقوبات

تعود معظم العقوبات الأحادية الجانب على سوريا إلى عام 2011، عندما أمر الرئيس الأميركي باراك أوباما بتوسيع العقوبات المفروضة سابقاً في إطار “قانون محاسبة سوريا” (2004). وشملت العقوبات الجديدة حظر الرحلات الجوية وفرض قيود على صادرات النفط، وقيود مالية على كيانات وأفراد، وتجميد أصول سورية في الخارج، وفرض حظر سفر على عدد من المسؤولين ورجال الأعمال السوريين، وقطع العلاقات الدبلوماسية مع دمشق.

عام 2019، منح “قانون قيصر” واشنطن سلطة فرض عقوبات ضد أي فرد أو طرف بغض النظر عن جنسيته، يتعامل مع سوريا أو يشترك في مشاريع البنى التحتية والطاقة، أو يقدم دعماً مالياً أو مادياً أو تكنولوجياً للحكومة السورية، أو يزوّد القوات العسكرية السورية بالسلع أو الخدمات. وفي عام 2022 أقر الكونغرس الأميركي قانون الكبتاغون لمحاربة تجارة الكبتاغون بزعم أنها تنطلق من سوريا، وهو قانون يهدد صناعة الدواء السورية.

عام 2011 أيضاً، حظر الاتحاد الأوروبي صادرات الأسلحة والسلع وتكنولوجيا الطاقة إلى سوريا، كما فرض حظراً استيراد النفط السوري والمعادن والتعاملات التجارية والمالية مع قطاع الطاقة السوري. ووسع الاتحاد الأوروبي عقوباته عام 2018 لتشمل تجميد الأصول وحظر السفر على أفراد وكيانات زُعم تورطها في استخدام الأسلحة الكيماوية. كذلك فرضت المملكة المتحدة عقوبات موازية على سوريا بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. كما انضمت الى العقوبات دول عدة، من بينها كندا وأستراليا وسويسرا، ودول عربية من بينها قطر والسعودية.

سحق للمواطن السوري

التدهور المريع للأوضاع الإنسانية والمعيشية في سوريا، نتيجة العقوبات الأحادية الجانب المخالفة للقوانين والمواثيق الدولية، دفع الأمم المتحدة أخيراً إلى ايفاد المقررة الخاصة المعنية بالأثر السلبي للتدابير القسرية الأحادية على التمتع بحقوق الإنسان في مجلس حقوق الإنسان، ألينا دوهان، إلى دمشق بين 30 تشرين الأول و10 تشرين الثاني الماضيين، لتقييم أثر العقوبات. بعد زيارتها القصيرة، أعدّت دوهان تقريراً أولياً حول الأوضاع الكارثية التي يعيشها السوريون في ظل العقوبات، على أن تصدر تقريراً مفصلاً في أيلول المقبل.

في التقرير المبدئي المؤلف من 43 صفحة، عبّرت دوهان عن صدمتها من آثار العقوبات الهائلة على حقوق الإنسان، حيث يعيش 90 في المئة من سكان سوريا حالياً تحت خط الفقر، مع محدودية الوصول إلى الغذاء والمياه والكهرباء والمأوى ووقود الطهي والتدفئة والمواصلات والرعاية الصحية، محذراً من أنّ البلاد تواجه “نزيفا هائلا للأدمغة” نتيجة لتزايد الصعوبات الاقتصادية.

وأشارت دوهان، في بيان لها، إلى إنه “مع تدمير أكثر من نصف البنية التحتية الحيوية بالكامل أو تضررها بشدة، أدى فرض عقوبات أحادية الجانب على القطاعات الاقتصادية الرئيسية، بما في ذلك النفط والغاز والكهرباء والتجارة والبناء والهندسة، إلى القضاء على الدخل الوطني وتقويض الجهود نحو التعافي الاقتصادي وإعادة الإعمار”.

وتضيف إن “عدم إمكانية التسديد والدفع ورفض التسليم من قبل المنتجين والمصارف الأجنبية، إلى جانب نقص الاحتياطيات من العملات الأجنبية التي فرضتها العقوبات، تسبب في نقص خطير في الأدوية والمعدات الطبية المتخصصة، خاصة للأمراض المزمنة والنادرة”.

وحذرت من “توقف عملية إعادة تأهيل وتطوير شبكات توزيع مياه الشرب والري بسبب عدم توفر المعدات وقطع الغيار، الأمر الذي أدى إلى تداعيات خطيرة على الصحة العامة والأمن الغذائي”.

المقررة الأممية، التي عبرت في بيانها، أكثر من مرة، عن صدمتها لما رأته خلال زيارتها إلى سوريا، طالبت بالرفع الفوري للعقوبات أحادية الجانب التي تضرّ بشدة بحقوق الإنسان وتمنع أيّ جهود للتعافي المبكر وإعادة البناء والإعمار”، مشيرة إلى أن 12 مليون سوري يعانون من انعدام الأمن الغذائي، وقالت “لا يمكن تبرير انتهاك حقوق الإنسان الأساسية بالحديث عن النوايا والأهداف الحسنة للعقوبات أحادية الجانب… وعلى المجتمع الدولي الالتزام بالتضامن وتقديم المساعدة للشعب السوري “.

ويلقي التقرير المبدئي الضوء على قطاعات عدة متأثرة بالعقوبات، حيث يشير إلى أنه “بعد اندلاع الحرب ومع فرض العقوبات واستمرارها تعرض الاقتصاد السوري لانكماش بنسبة تزيد عن 90 %”، وإلى أن الأسعار ارتفعت “بأكثر من 800 %”، إضافة إلى أن سوريا “تدفع أكثر بـ50 % مقارنة بدول الجوار زيادة لتأمين احتياجاتها الغذائية”.

ويخلص التقرير الأممي المبدئي إلى مجموعة من التوصيات أبرزها دعوة الدول التي تفرض العقوبات والمنظمات الإقليمية إلى رفع أو تعليق جميع العقوبات الأحادية المفروضة على سوريا وعلى المواطنين السوريين وعلى الشركات السورية من دون أي تفويض من مجلس الأمن، ولا يمكن تبرير استخدامها على أنها ردود أو إجراءات مضادة وفقاً للقانون الدولي.

كذلك يحث التقرير حكومة الولايات المتحدة الأميركية على وقف حالة الطوارئ القومية فيما يتعلق بسوريا، والتي تشكل الأساس للعقوبات الحالية، والتي أعلنت العام 2003 وتم تمديدها العام 2022 إلى عام إضافي باعتبارها مخالفة للمادة 4 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، ويدعوها إلى العمل على جعل التشريعات الوطنية لديها متوافقة مع القانون الدولي.

نظرة على بعض القطاعات المتضررة

تقرير دوهان أشار إلى أن تشديد العقوبات الأحادية والقيود التجارية أدّت إلى أزمة اقتصادية طويلة الأمد، مع ارتفاع متزايد لمستوى التضخم وتراجع مستمر لقيمة العملة المحلية وتراجع مستمر لقيمة العملة الوطنية من 47 ليرة سورية للدولار عام 2010 إلى أكثر من 5000 ليرة للدولار عام 2022.

الطاقة والمياه
حالت العقوبات أحادية الجانب دون حصول الحكومة على الموارد اللازمة لصيانة وتحسين البنية التحتية الرئيسية ولإعادة بناء وتطوير المشاريع الحيوية لتلبية احتياجات السكان، ولا سيما في المناطق النائية والريفية، بالإضافة النقص في الكهرباء ومياه الشرب بسبب تدمير المحطات والبنية التحتية للتوزيع وأيضاً بسبب عدم توفر الوقود والغاز اللازمين لتشغيل محطات الطاقة الحرارية ومضخات المياه. ولا يصل التيار الكهربائي في كثير من المناطق السورية إلا لمدة ساعة أو ساعتين يومياً، حيث يعاني قطاع الطاقة من أزمة استيراد قطع الغيار اللازمة لمحطات التوليد، جراء العقوبات.
كذلك، يعاني السوريون من أزمة في مياه الشرب، سواء بسبب التحكم التركي بمياه نهر الفرات (أحد أبرز مصادر المياه في سوريا)، أو بسبب الدمار الذي لحق بقطاع المياه جراء الحرب، وعدم القدرة على صيانته بسب العقوبات، ما أدى إلى تفشي بعض الأمراض بسبب تلوث المياه، من بينها الكوليرا مع تسجيل أكثر من 20 ألف حالة مشتبه فيها.
وتصل مياه الشرب إلى العديد من المنازل خلال ساعة أو ساعتين فقط كل بضعة أيام حيث انخفض نصيب الفرد من إمدادات مياه الشرب، ويمكن ري 20٪ فقط من الأراضي الزراعية في سوريا.

قطاع الصحة
أشار التقرير إلى أن انقطاع التيار الكهربائي أدى إلى تعطل معدات طبية حساسة ومكلفة، لا يمكن شراء قطع غيار لها بسبب القيود التجارية والمالية. وذكر أن 14.6٪ من السوريين يعانون من أمراض مزمنة ونادرة، وهناك عقبات تحول دون شراء الأدوية خصوصاً لمرضى السرطان وغسيل الكلى وضغط الدم والسكري، إضافة إلى مواد التخدير، بسبب انسحاب منتجي الأدوية الأجانب من سوريا وعدم القدرة على استيراد المواد الخام والكواشف المخبرية لإنتاج الأدوية محلياً. علماً أن الأدوية والأجهزة الطبية لا تخضع للعقوبات شكل مباشر، إلا أن غموض عمليات الترخيص وتعقيدها، وخوف المنتجين والموردين من العقوبات، جعلت الوصول إليها غير ممكن، خصوصاً بعد إقرار “قانون الكبتاغون”.

الزراعة والأمن الغذائي
بسبب نقص المياه والطاقة، والقيود المالية والتجارية، انخفضت كمية المدخلات الزراعية مثل الأسمدة والبذور والمبيدات والأعلاف، وقطع غيار الآلات الزراعية، تراحع إنتاج المحاصيل الزراعية من 17 مليون طن سنوياً في 2000-2011 إلى 11.9 مليون طن في 2021. محصول القمح الذي يعتبر مصدر الغذاء الأهم في سوريا، انخفض من 3.1 مليون طن في 2019 إلى أقل من 1.7 مليون طن في 2022. بعدما كانت سوريا تاريخياً مصدّراً للقمح، أصبحت اليوم تستورده عبر شبكة وسطاء، ما يزيد من الأعباء المالية لتأمينه.

وتواجه سوريا أزمة غذاء خطيرة، وفقاً لبرنامج الغذاء العالمي، إذ يعاني 12 مليون سوري – أكثر من نصف السكان – من انعدام الأمن الغذائي، بزيادة 51٪ عن العام 2019. ويعاني 2.4 مليون منهم من انعدام الأمن الغذائي الشديد.

تحاول الولايات المتحدة وحلفاؤها تبرير العقوبات بأنها تهدف إلى الضغط على الدول “المارقة” لإجبارها على تغيير سياساتها. لكن، التاريخ الطويل لهذه السياسة الأميركية في عدد من البلدان، يظهر أن العقوبات مجرد أداة سياسية تهدف بشكل أساسي إلى إخضاع الحكومات عبر سحق شعوبها. في الحالة السورية، تسحق الولايات المتحدة كل ما يمكنها كل ما يمكن سحقه من موارد حياة السوريين. وهو أمر ترى دمشق أنه مرتبط أساسا بالصراع مع إسرائيل التي تبدو الرابح الأكبر.

واتس اب
فیس بوک
تیلجرام
ایکس
مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اخر أخبـــار
سياحة وتجوال